العوامل و الأسباب الحقيقية للفشل الذريع لجميع الإصلاحات في قطاع التربية و التعليم في المغرب
و التعرف على الأسباب يعتبر مدخلا حقيقيا للإنقاذ
بقلم: مبارك الموساوي
و التعرف على الأسباب يعتبر مدخلا حقيقيا للإنقاذ
بقلم: مبارك الموساوي
1
استهلال
إن ظاهرة فشل إصلاحات التعليم في المغرب جعلت الجميع اليوم أمام مسؤولية عظمى تقتضي ضرورةً امتلاك كامل الجرأة المسؤولة للقول الفصل في قضية يتعلق بها مصير المغرب والمغاربة الذين هم في تيهان مهول بسبب نتائج منظومة تربوية تعليمية عجز البيت الداخلي عن التصدي لها، مما دفع بالمسؤولين في لحظات صعبة إلى طلب علاجها من طرف خارجي، ولهذا دلالاته الكبرى.
لقد بات المنهج التوصيفي للأزمة أمرا مملا للغاية حتى أصبح المثقف نفسه، بعد السياسي المناضل والخبير، فاقد الرجاء في أي معنى من معاني إصلاح هذه المنظومة، مما يدل على النفق الحقيقي الذي عليه الوضع العام في المغرب، كما أصبح من الضروري تفادي لحظة الأسئلة عن مصادر هذا الفشل للدخول حتما في مرحلة تشخيصها والبحث الجدي للكشف عن مداخل ومسالك إصلاح حقيقي وبناء.
وبين يدي قرابة نهاية عشرية إصلاح المنظومة التربوية التعليمية على ضوء ما سمي ب"الميثاق الوطني للتربية والتكوين"، وقد اعتاد المغاربة على تقديم إصلاح كل عشرة سنوات تقريبا، وأمام مبادرة المخطط الاستعجالي لاستدراك ما يمكن استدراكه حين ظهرت كارثة تنزيل هذا الميثاق في سياقات وظروف غير ملائمة كليا لأي إصلاح من النوع المنزل، فإن الضرورة تقتضي الوقوف على العوامل الرئيسة في هذا الفشل الدائم، بل العجز القاتل في التصدي لأخطر قضية في حياة الأمم؛ قضية التربية والتعليم لما لها من علاقة جوهرية بمستقبل الأمة ونوعية الشخصية المستقبلية.
لقد أصبح من الواجب على كل غيور أن يصرخ ولو في واد ليقول بصوت عال: إنه من شديد المنكر وكبيره أن نزيد من ضياع وقت أمة بكاملها بعد حوالي قرن من الإصلاحات الفاشلة!!!
استهلال
إن ظاهرة فشل إصلاحات التعليم في المغرب جعلت الجميع اليوم أمام مسؤولية عظمى تقتضي ضرورةً امتلاك كامل الجرأة المسؤولة للقول الفصل في قضية يتعلق بها مصير المغرب والمغاربة الذين هم في تيهان مهول بسبب نتائج منظومة تربوية تعليمية عجز البيت الداخلي عن التصدي لها، مما دفع بالمسؤولين في لحظات صعبة إلى طلب علاجها من طرف خارجي، ولهذا دلالاته الكبرى.
لقد بات المنهج التوصيفي للأزمة أمرا مملا للغاية حتى أصبح المثقف نفسه، بعد السياسي المناضل والخبير، فاقد الرجاء في أي معنى من معاني إصلاح هذه المنظومة، مما يدل على النفق الحقيقي الذي عليه الوضع العام في المغرب، كما أصبح من الضروري تفادي لحظة الأسئلة عن مصادر هذا الفشل للدخول حتما في مرحلة تشخيصها والبحث الجدي للكشف عن مداخل ومسالك إصلاح حقيقي وبناء.
وبين يدي قرابة نهاية عشرية إصلاح المنظومة التربوية التعليمية على ضوء ما سمي ب"الميثاق الوطني للتربية والتكوين"، وقد اعتاد المغاربة على تقديم إصلاح كل عشرة سنوات تقريبا، وأمام مبادرة المخطط الاستعجالي لاستدراك ما يمكن استدراكه حين ظهرت كارثة تنزيل هذا الميثاق في سياقات وظروف غير ملائمة كليا لأي إصلاح من النوع المنزل، فإن الضرورة تقتضي الوقوف على العوامل الرئيسة في هذا الفشل الدائم، بل العجز القاتل في التصدي لأخطر قضية في حياة الأمم؛ قضية التربية والتعليم لما لها من علاقة جوهرية بمستقبل الأمة ونوعية الشخصية المستقبلية.
لقد أصبح من الواجب على كل غيور أن يصرخ ولو في واد ليقول بصوت عال: إنه من شديد المنكر وكبيره أن نزيد من ضياع وقت أمة بكاملها بعد حوالي قرن من الإصلاحات الفاشلة!!!
2
مقدمات نقدية للمنظومة التربوية التعليمية
أ- معضلة قبضة الدولة
فمن التحولات الجذرية الحاصلة في قضية التربية والتعليم في ما بعد الاستقلال السياسي (الصوري) أن قضية التربية والتعليم خرجت من حضن الأمة إلى قبضة الدولة من خلال مؤسسات حكومية أو نظامية (نسبة إلى المؤسسة العليا في النظام السياسي)، حيث كانت محورية في اشتغال الأمة اليومي من قبل لتصبح من أمهات قضية دولة "الاستقلال".
نعم، كانت الأمة في حالة ركود تاريخي شل الحركة العلمية وجعلها قبل فترة الاستعمار المباشر غير ذات جدوى في عمومها، وهو ما سهل عملية انتقال سريع وكلي من منظومة راكدة إلى منظومة منبهرة بما جاء به المستعمر وما تعج به داره في الغرب؛ فرهنت القاعدةُ التي اعتُمدت في صياغة المنظومة التربوية الحديثة في المغرب هذه المنظومة في سياق لايسمح لها بالفعالية والقابلية للإصلاح والتعديل المجديين مما كرس أزمة حادة امتدت إلى جميع شرايين الحياة المغربية بعد حوالي أكثر من نصف القرن.
ب- معضلة قبضة السياسي
وعوض أن يتم توفير الإمكانات المادية والبشرية والسياسية الحقيقية لتطوير المنظومة التربوية التعليمية الراكدة وجدت حركة هذه المنظومة نفسها في قبضة السياسي المتحرك وفق أهداف سياسية تستند إلى "إديولوجية" سياسية لا إلى مرجعية الشعب الكلية، وهو ما قلص إلى حد العدم الفضاء المناسب لتتحرك المنظومة الأصلية في اتجاه اكتشاف مواطن ضعفها ومواطن قوتها وتنخرط في عملية تجديد شاملة وأصيلة في اتجاه مستقبل واضح المعالم بناء على نهضة الشعب المغربي العامة لطرد المستعمر.
لقد ساهم حرص السياسي المناضل على قبضته على قضية التربية والتعليم في المغرب في اختناق المنظومة وشل حركتها، مما أقصى فعاليات مهمة وحد من تحقيق الأهداف الأربعة المعروفة المعلنة بداية الاستقلال الصوري (تعميم التعليم، توحيد التعليم، تعريب التعليم، مغربة الأطر).
وتزداد الخطورة وحدة الاختناق لما تكون الوضعية على الصورة المغربية: نظام سياسي له أهدافه واستراتيجياته السياسية، وقوى غايتها سياسية في جوهرها (قلب نظام الحكم أو مجرد المشاركة في أدواته: حكومة، برلمان، وظائف سامية....)، حيث أصبحت المنظومة متحركة ضمن نوع صراع سياسي غامض وملتبس ومرتبك فضلا عن أنه هامشي وثانوي لم يسمح لها بالتفاعل الإيجابي مع القضايا الحقيقية للأمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها:
-غايات كبرى: من وضع النظام السياسي عبر خبرته الطويلة، تشكل مرجعيته السياسية وتضمن نتائج مستقبلية محافظة عليه وعلى وجوده، إذ على هذه القاعدة يوجه صراعه المستمر في التحكم الكامل في أي إصلاح وفي تفاصيل المنظومة.
-أهداف متحركة: يتكلف الموظف السامي والمستشار الملكي والمناضل السياسي من خلال مشاركته في الحكم بتحقيقها أو تغييرها حسب "برنامجه" إن كان له برنامج، أو حسب إرادة الخارج في لحظات الضيق الشديد والضعف الكبير (كما الشأن في لحظة التهديد بالسكتة القلبية حيث أخبر بذلك الملك الراحل، ولحظة تسليم ملف إصلاح التعليم لجهات غربية).
والنتيجة خروج المنظومة من احتضان الأمة بشكل نهائي لتخضع لتقلبات اللحظة ومطالبها السياسية، بل في مناسبات عدة كانت ضحية مزايدات سياسوية وانتخابوية (يُنتبه في هذا الباب لنوع الصراع الذي يصحب إنجاز كل إصلاح)، ولعل صياغة ما سمي ب"الميثاق الوطني للتربية والتكوين" خضعت لهذا تماما بحيث انضاف إلى الصراع الداخلي بين مكونات الميثاق السياسية وغيرها استحضار تصاعد الحركة الإسلامية، مما جعل أهداف الميثاق الحقيقية غامضة وملتبسة ولا علاقة لها بقضايا التربية والتعليم حقيقة. وهو ما يعني أن أي انخراط في تفعيل "الميثاق" يعني تحريك مجال مهم وحيوي ومصيري لتحقيق أهداف ضيقة الأفق ولا علاقة لها بالقضية؛ مما يعني ضرورة العمل الجماعي لأجل تغييره تغييرا كليا بتوفير الظروف السياسية والفكرية والنفسية المؤهلة لذلك.
ت- معضلة غياب القضية
فحينما خرجت المنظومة من أحضان الأمة وسلكت طريقا شاقا وملتويا في سياق اختيارات النظام السياسي الحديثة لم تصبح ذات قضية كبرى، وهو ما أفقدها كل عوامل القوة الأساسية حيث أصبحت تائهة في صحراء السياسة والفكر القزمي، ذلك أن المنظومة التربوية عندما لا ترتكز حركتها وسيرورتها على قضية كبرى هي جوهر اختيار الأمة التاريخي والمصيري تصبح متقلبة بين آليات "تقنية" يُعتقد خطأ أنها كليات مرجعية وما هي إلا جزئيات مبعثرة ترسم صورة مضببة حول المستقبل وآفاقه، لذلك لم تُخرج المنظومة إلا رجالا "تقنويون" موظفون في أحسن الأحوال وعاطلون في أسوئها، بحيث لم تستطع أن ترتبط، على الأقل، بمطالب السوق وحاجاته، فضلا عن أن تخرج كما هائلا ممن يستطيع أن يقود الأمة إلى التغيير والتجديد المطلوبين في كل مرحلة وفي كل مجال.
نخلص، إذن، بهذه المقدمات الثلاثة المشار إليها أعلاه بتركيز كبير إلى أن منظومتنا التربوية التعليمية تطلب ثلاثة مطالب أساسية لإصلاحها إصلاحا حقيقيا، وهو ما يطلب تغييرا كليا وجذريا:
المطلب الأول: أمة قوية عالمة بقضيتها محتضنة لمنظومتها التربوية التعليمية بكل تفاصيلها وعناصرها.
المطلب الثاني: دولة عادلة: خارجة من صلب حركة الأمة في تفاعلها مع كل قضاياها وليست دولة ما هي إلا أداة في قبضة نظام سياسي يقتسم بعض الأدوار مع المناضل السياسي والمثقف العضوي ليسلم قضايا الأمة الجوهرية في لحظات صعبة إلى يد خارجية تملي وتفعل ما تشاء وفق أهدافها واستراتيجياتها في المنطقة وإنسانها.
ومن المعلوم أن دور الدولة تنظيمي تدبيري وليس صانع المنظومة، إذ من معضلات التربية والتعليم في عالم اليوم أن أصبحت أداة كلية في يد مؤسسة جزئية هي الدولة.
المطلب الثالث: قضية جامعة: لها رجالها ومؤسساتها تجتمع عليها الأمة، حيث اختارتها بإرادتها في تفاعل مع كل قواها الحية والصادقة، وتشكل المعيار الكلي والمضمون الحقيقي للمنظومة التربوية التعليمية وحركتها في الواقع والمستقبل.
إن القضية من خلال رجالها هي راعية المنظومة وحارستها وصانعتها في تفاعل كبير مع الأمة.
إن هذه المطالب تشكل ركائز المدخل الحقيقي لإصلاح المنظومة التربوية التعليمية في المغرب، وهو ما يكشف على أن قضية التربية والتعليم في المغرب أصبحت من صلب القضايا التي ينبغي أن تكون موضوع نقاش جامع وبحث ميثاقي في إطار تمريض مرحلة انتقالية تقطع مع كل العوامل الرئيسة في الفشل الدائم لمنظومتنا التربوية التعليمية والاختناق الكلي لحركة مجتمعنا.
مقدمات نقدية للمنظومة التربوية التعليمية
أ- معضلة قبضة الدولة
فمن التحولات الجذرية الحاصلة في قضية التربية والتعليم في ما بعد الاستقلال السياسي (الصوري) أن قضية التربية والتعليم خرجت من حضن الأمة إلى قبضة الدولة من خلال مؤسسات حكومية أو نظامية (نسبة إلى المؤسسة العليا في النظام السياسي)، حيث كانت محورية في اشتغال الأمة اليومي من قبل لتصبح من أمهات قضية دولة "الاستقلال".
نعم، كانت الأمة في حالة ركود تاريخي شل الحركة العلمية وجعلها قبل فترة الاستعمار المباشر غير ذات جدوى في عمومها، وهو ما سهل عملية انتقال سريع وكلي من منظومة راكدة إلى منظومة منبهرة بما جاء به المستعمر وما تعج به داره في الغرب؛ فرهنت القاعدةُ التي اعتُمدت في صياغة المنظومة التربوية الحديثة في المغرب هذه المنظومة في سياق لايسمح لها بالفعالية والقابلية للإصلاح والتعديل المجديين مما كرس أزمة حادة امتدت إلى جميع شرايين الحياة المغربية بعد حوالي أكثر من نصف القرن.
ب- معضلة قبضة السياسي
وعوض أن يتم توفير الإمكانات المادية والبشرية والسياسية الحقيقية لتطوير المنظومة التربوية التعليمية الراكدة وجدت حركة هذه المنظومة نفسها في قبضة السياسي المتحرك وفق أهداف سياسية تستند إلى "إديولوجية" سياسية لا إلى مرجعية الشعب الكلية، وهو ما قلص إلى حد العدم الفضاء المناسب لتتحرك المنظومة الأصلية في اتجاه اكتشاف مواطن ضعفها ومواطن قوتها وتنخرط في عملية تجديد شاملة وأصيلة في اتجاه مستقبل واضح المعالم بناء على نهضة الشعب المغربي العامة لطرد المستعمر.
لقد ساهم حرص السياسي المناضل على قبضته على قضية التربية والتعليم في المغرب في اختناق المنظومة وشل حركتها، مما أقصى فعاليات مهمة وحد من تحقيق الأهداف الأربعة المعروفة المعلنة بداية الاستقلال الصوري (تعميم التعليم، توحيد التعليم، تعريب التعليم، مغربة الأطر).
وتزداد الخطورة وحدة الاختناق لما تكون الوضعية على الصورة المغربية: نظام سياسي له أهدافه واستراتيجياته السياسية، وقوى غايتها سياسية في جوهرها (قلب نظام الحكم أو مجرد المشاركة في أدواته: حكومة، برلمان، وظائف سامية....)، حيث أصبحت المنظومة متحركة ضمن نوع صراع سياسي غامض وملتبس ومرتبك فضلا عن أنه هامشي وثانوي لم يسمح لها بالتفاعل الإيجابي مع القضايا الحقيقية للأمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها:
-غايات كبرى: من وضع النظام السياسي عبر خبرته الطويلة، تشكل مرجعيته السياسية وتضمن نتائج مستقبلية محافظة عليه وعلى وجوده، إذ على هذه القاعدة يوجه صراعه المستمر في التحكم الكامل في أي إصلاح وفي تفاصيل المنظومة.
-أهداف متحركة: يتكلف الموظف السامي والمستشار الملكي والمناضل السياسي من خلال مشاركته في الحكم بتحقيقها أو تغييرها حسب "برنامجه" إن كان له برنامج، أو حسب إرادة الخارج في لحظات الضيق الشديد والضعف الكبير (كما الشأن في لحظة التهديد بالسكتة القلبية حيث أخبر بذلك الملك الراحل، ولحظة تسليم ملف إصلاح التعليم لجهات غربية).
والنتيجة خروج المنظومة من احتضان الأمة بشكل نهائي لتخضع لتقلبات اللحظة ومطالبها السياسية، بل في مناسبات عدة كانت ضحية مزايدات سياسوية وانتخابوية (يُنتبه في هذا الباب لنوع الصراع الذي يصحب إنجاز كل إصلاح)، ولعل صياغة ما سمي ب"الميثاق الوطني للتربية والتكوين" خضعت لهذا تماما بحيث انضاف إلى الصراع الداخلي بين مكونات الميثاق السياسية وغيرها استحضار تصاعد الحركة الإسلامية، مما جعل أهداف الميثاق الحقيقية غامضة وملتبسة ولا علاقة لها بقضايا التربية والتعليم حقيقة. وهو ما يعني أن أي انخراط في تفعيل "الميثاق" يعني تحريك مجال مهم وحيوي ومصيري لتحقيق أهداف ضيقة الأفق ولا علاقة لها بالقضية؛ مما يعني ضرورة العمل الجماعي لأجل تغييره تغييرا كليا بتوفير الظروف السياسية والفكرية والنفسية المؤهلة لذلك.
ت- معضلة غياب القضية
فحينما خرجت المنظومة من أحضان الأمة وسلكت طريقا شاقا وملتويا في سياق اختيارات النظام السياسي الحديثة لم تصبح ذات قضية كبرى، وهو ما أفقدها كل عوامل القوة الأساسية حيث أصبحت تائهة في صحراء السياسة والفكر القزمي، ذلك أن المنظومة التربوية عندما لا ترتكز حركتها وسيرورتها على قضية كبرى هي جوهر اختيار الأمة التاريخي والمصيري تصبح متقلبة بين آليات "تقنية" يُعتقد خطأ أنها كليات مرجعية وما هي إلا جزئيات مبعثرة ترسم صورة مضببة حول المستقبل وآفاقه، لذلك لم تُخرج المنظومة إلا رجالا "تقنويون" موظفون في أحسن الأحوال وعاطلون في أسوئها، بحيث لم تستطع أن ترتبط، على الأقل، بمطالب السوق وحاجاته، فضلا عن أن تخرج كما هائلا ممن يستطيع أن يقود الأمة إلى التغيير والتجديد المطلوبين في كل مرحلة وفي كل مجال.
نخلص، إذن، بهذه المقدمات الثلاثة المشار إليها أعلاه بتركيز كبير إلى أن منظومتنا التربوية التعليمية تطلب ثلاثة مطالب أساسية لإصلاحها إصلاحا حقيقيا، وهو ما يطلب تغييرا كليا وجذريا:
المطلب الأول: أمة قوية عالمة بقضيتها محتضنة لمنظومتها التربوية التعليمية بكل تفاصيلها وعناصرها.
المطلب الثاني: دولة عادلة: خارجة من صلب حركة الأمة في تفاعلها مع كل قضاياها وليست دولة ما هي إلا أداة في قبضة نظام سياسي يقتسم بعض الأدوار مع المناضل السياسي والمثقف العضوي ليسلم قضايا الأمة الجوهرية في لحظات صعبة إلى يد خارجية تملي وتفعل ما تشاء وفق أهدافها واستراتيجياتها في المنطقة وإنسانها.
ومن المعلوم أن دور الدولة تنظيمي تدبيري وليس صانع المنظومة، إذ من معضلات التربية والتعليم في عالم اليوم أن أصبحت أداة كلية في يد مؤسسة جزئية هي الدولة.
المطلب الثالث: قضية جامعة: لها رجالها ومؤسساتها تجتمع عليها الأمة، حيث اختارتها بإرادتها في تفاعل مع كل قواها الحية والصادقة، وتشكل المعيار الكلي والمضمون الحقيقي للمنظومة التربوية التعليمية وحركتها في الواقع والمستقبل.
إن القضية من خلال رجالها هي راعية المنظومة وحارستها وصانعتها في تفاعل كبير مع الأمة.
إن هذه المطالب تشكل ركائز المدخل الحقيقي لإصلاح المنظومة التربوية التعليمية في المغرب، وهو ما يكشف على أن قضية التربية والتعليم في المغرب أصبحت من صلب القضايا التي ينبغي أن تكون موضوع نقاش جامع وبحث ميثاقي في إطار تمريض مرحلة انتقالية تقطع مع كل العوامل الرئيسة في الفشل الدائم لمنظومتنا التربوية التعليمية والاختناق الكلي لحركة مجتمعنا.
3
عوامل فشل المنظومة التربوية التعليمية الدائم
هنا في المغرب نقاش كبير وكثير حول ظاهرة استمرار فشل إصلاحات المنظومة التربوية التعليمية حتى أصبح من الواضح الإقرار بأنه فشل دائم لا يتعلق بالإصلاحات بقدر ما هو ماهية المنظومة نفسها. ولذلك أصبح السؤال التالي حقيقة قائمة: هل نحن أمام منظومة قابلة للإصلاح فعلا، أم نحن المغاربة أمام ضرورة البحث عن منظومة أخرى تخرجنا من الورطة العامة وتفتح أفقا جديدا وحركة جديدة أمام المغاربة والمجتمع المغربي بعد ضياع حوالي قرن في فلك إصلاحات فاشلة؟
دون السقوط في فخ النقاش السطحي والتسطيحي لقضية جوهرية في حياة الشعب المغربي ستحاول هذه الورقة أن تقرأ "منطق" الإصلاحات وحبلها الناظم لتكشف بكل وضوح عن عوامل الفشل الحقيقي لنقف جميعا على أننا أمام خيارين لا ثالث لهما:
أ- ترك الأمر على ما هو عليه؛ فنتعب أنفسنا ونضيع وقت شعبنا وأمتنا في دوران الحلقة المفرغة عسى نعثر على فتات إصلاحات لم تُجْد ولن تجدي، إذ يكفينا حجم الخسارة البشرية والمادية والتاريخية بسبب ما عاشه ويعيشه المغرب مع دوام الفشل.
ب- امتلاك الوعي الضروري والجرأة الكافية لنصدع بحق تستفيد من ثمرته الأمة والإنسانية حين نُجمع أمرنا ونوحد كلمتنا حول مدخل عملي لاكتشاف منظومة تفعل وجودنا وتبرهن عن جدوانا وتكشف عن طاقاتنا وتجمعها في أفق مستقبل عريض وعظيم وتوفر لنا إمكانية الاستفادة المتوازنة من غيرنا.
ومن هذا المنطلق لن نبحث اليوم في التماسك "التقني" علوميا وبداغوجيا داخل الإصلاحات حيث يمكن أن يجتمع عشرة من الخبراء ويبحثوا في كل جديد فيصوغوا إصلاحا متقونا "تقنيا"، لكنه على مستوى مرجعيته وامتداده الحقيقي في الواقع والمستقبل يبقى غير ذي جدوى، وهو ما صحب جل الإصلاحات في المغرب. ولذلك سنحاول أن نقف على أصول ومصادر الفشل الدائم المخترقة بكل هدوء وربما بـ"علمية" و"منهجية" المنظومة التربوية التعليمية.
ويمكن إجمالها في ثلاثة أصول يشكل تفاعلها الداخلي وتكاملها العملي واقع الأزمة المعيشة:
الأول: تكريس الاستبداد
يعتبر الباحثون أن المنظومة التربوية التعليمية حينما تمارس داخل المؤسسة التعليمية بكل أصنافها ودرجاتها تصبح هي "الأداة الإيديولوجية الكبرى للدولة"، وقد سبق معنا أن من التحولات الجذرية السلبية أن خرجت هذه المنظومة من حضن الأمة إلى قبضة الدولة، وهذه الأخيرة نفسها ليست أداة بيد الأمة اليوم بل تم احتكارها من طرف قبضة نظام سياسي معين، فأصبحنا أمام واقع احتكرت فيه السلطة والدولة والثروة من جهة واحدة قائمة على منطق الاستبداد المطلق وقواعده الفاعلة.
وهو ما يطرح سؤالا جوهريا حول جدوى منظومة تتحرك وتشتغل في هذا السياق، وهو، كذلك، ما يفسر فشلها الدائم حيث بهذا تتعارض والطبيعة الإنسانية المبنية عل معاني الحرية والإيجابية خاصة في مجال التربية والتعليم الذي تمتد آثاره إلى كل شرايين الحياة في أبعادها الفردية والجماعية الحاضرة والمستقبلية.
إن امتداد يد الاستبداد إلى روح المنظومة التربوية التعليمية وصياغتها بكل جرأة لتحافظ عليه وتكرسه كواقع دائم في النفوس والأفكار شكل عقدة العقد وعقبة العقبات أمام تحرك هذه المنظومة في اتجاه إنتاج عوامل القوة البشرية والمادية والعلومية.
فلما تحدث "الميثاق الوطني للتربية والتكوين" عن المرتكزات الثابتة ذكر من أهمها ما يلي:
- الاهتداء بمبادئ العقيدة الإسلامية السمحاء.
- حب الوطن والتمسك بالمملكة الدستورية (الميثاق الوطني للتربية والتكوين)[1].
فنحن أمام مرتكزات يراد لها الثبات، أنجزت خليطا على أساس كبير من الغموض بين ثلاثة مجالات: الاهتداء بمبادئ العقيدة الإسلامية السمحاء (مجرد الاهتداء في انتظار التخلص كما يدعو إلى ذلك التيار الاستئصالي في المستقبل القريب) + حب الوطن + التمسك بالمملكة الدستورية.
ولاشك أن امتزاج هذه المجالات الثلاثة في التجربة المغربية -عبر قرون من الزمن تميزت بتقلبات حادة تاريخيا لتلتقي في لحظة ضعف المجتمع والنظام السياسي مع فترة الاستعمار الخارج من معركة "التنوير مع الكنسية"- سيفضي إلى تغليب قبضة النظام السياسي أمام التباس في فهم العقيدة وتكريس عجزها الكبير عندما شوهها التاريخ ولبس عليها كثير من الحكام لتتراجع إلى أبعد الحدود مبادئها ويصبح حب الوطن مجسدا في إحكام قبضة النظام السياسي كليا على المنظومة وحركتها في الواقع وامتدادها في المستقبل، وذلك ليفرض على الوعي والتفكير المغربيين أن تصبح ماهية المواطنة هي ماهية النظام السياسي نفسه وحب الوطن ماهية حبه وخدمة الوطن خدمته وبناء الوطن بناؤه...
إننا أمام تجربة خطيرة حينما ننظر إليها من زاوية المستقبل وما أنتجته اليوم، ذلك أن إخضاع حركةَ منظومةِ مجال لا يمكن أن يكون فيه الإبداع والعطاء إلا في ظروف الحرية الحقيقية خسارة عظمى من ناحية وتكريس للاستبداد المتعارض جوهريا ووجوديا مع الحرية الحقيقية.
الثاني: تكريس التبعية
ويا ليت الأمر وقف عند ذلك الحد، بل حصل الاختراق الكامل من طرف مفاهيم مركزية ناتجة عن صيرورة غربية وتُكون ماهيتها وحضارتها ومعناها؛ إذ نجد من المرتكزات الثابتة في حركة الإصلاحات لمنظومتنا التربوية التعليمية ليس الانفتاح على المنظومة الغربية للاستفادة منها بناء على الحكمة اللازمة بما هي تجربة إنسانية، بل لتبنيها جملة باعتماد مفاهيم مركزية في الباب، من قبيل الديموقراطية والحداثة، دون التدقيق في خلفيتها وحمولتها المرجعية والتاريخية والقيمية التي لم ولن تصمد أمامها ترسانة من المفاهيم الغامضة والقاصرة ك"الاهتداء بالعقيدة الإسلامية السمحاء"، و"الأصالة والمعاصرة".
ولذلك لن تُخَرج منظومة محكومة بهذه الدلالات المتحالفة مع الاستبداد ضمن تفعيل فعالية العلوم المدروسة ومناهجها المعتمدة (أغلبها غربي إن لم نقل كلها) إلا متعلما مقيما في المغرب جغرافيا وعقله وقلبه وربما روحه في عاصمة من عواصم الغرب.
نعم لا يعني هذا عداء لكل ما هو غربي، فليس ذلك من الحكمة ولا من الإنسانية في شيء، بل المقصود أننا لم ننفتح على المنظومة الغربية وإنما وجدنا أنفسنا أمام ضعفنا وجهلنا بقضيتنا ومرجعيتنا بين قبضة حديدية مزدوجة وحادة: استبداد وتبعية في إطار تحالفهما السياسي الاستراتيجي الذي تكون فيه الغلبة لقوة الغرب العلومية والمادية. ولذلك لسنا اليوم على واقع حرية إذ لا يمكن لمنظومة هذه روحها وجوهرها وقَدَرها أن تخرج شيئا بالأحرى أن تذهب بنا إلى التقدم الحقيقي والقيام بدورنا التاريخي.
الثالث: وهم الصراع بين التقليد والحداثة
شكل مفهوم الحداثة أداة فكرية وحركية وتنظيمية وسياسية مبهرة فتصدى لها المفكرون والباحثون والسياسيون تحليلا وبيانا ونقدا وإن بشكل محتشم، لكن الواقع أن مفهوم الحداثة أحدث اختراقا هائلا في بنية التفكير لدى المثقف والمفكر والسياسي في المغرب لعوامل، ليس هنا مقام بيانها وإن كنا نتحدث عن أهمما (التعليم)، مما أدى إلى تبنيه الكلي.
ولاشك أن من القضايا الشائكة التي واجهت المفكر والتفكير والفكر في المغرب قضية الإصلاح في كل المجالات، خاصة السياسي والتربوي التعليمي مما أتاح "ديناميكية" كبيرة لهذا الاختراق. وقد كانت معاقل التقليد الراكدة في أفكار وهياكل وتنظيمات موضوع وهدف رماح النقد الحداثي في كل المجالات، ومع مرور الزمن تشكل وعي عام لدى النخبة المفكرة والسياسية والمثقفة أن مدخل الإصلاح يكمن في تحقيق الانتصار الساحق لمفهوم الحداثة على مفهوم التقليد كما تصورونه في الواقع وكما وجدته فيه.
لقد اختلفت النخبة في الباب، فمنها من دعا إلى القطيعة المنهجية الكلية مع الماضي والانتقال إلى تبني المفاهيم الكبرى الغربية في بناء الشخصية والمجتمع والدولة، ومنها من دعا إلى العمل على تبيئة المفاهيم بالبحث عن نظير لها في التراث ثم العمل على ملء هذا النظير بالمدلولات الغربية وستكون المنظومة التربوية التعليمية أهم مجال في الباب للتخلص من كل ما هو تقليد.
ودون كبير عناء في تدقيق ماهية هذا التقليد، ولاعتبارات "إيديولوجية" وفكرية وسياسية تم تعميمه ليشمل كل ما له علاقة بالإسلام وبحركته في الواقع خاصة لما برزت الحركة الإسلامية وأصبح لها حضورها الوازن والواضح في كل القطاعات والمجالات وظهر أن لها مشروعها السياسي وتصورها للحكم والدولة والمجتمع.
لقد حصلت آثار وخيمة لهذا التعميم على حركة المنظومة التربوية التعليمية، إذ عوض أن يتم الانتباه إلى ضرورة البحث الدقيق في علاقتها بالأصول المرجعية الحقيقية لاختيار الشعب المغربي الإسلام طوعا لا كرها، تم إدخال مجال مصيري، هو مجال التربية والتعليم، إلى حيز صراع ضيق ومحدود، بل حين يحصل التدقيق فيه جيدا سيتبين أنه صراع وهمي؛ ذلك أن الحركة الإسلامية من خلال مشروعها المجتمعي تتقدم برؤية هامة وجذرية في نقد ذلك التقليد باعتباره أهم عوامل الركود العام وأهم عقبات التجديد المتكامل لسلوك الفرد والمجتمع. ومن خلال رؤيتها هذه خرجت من مجال التقليد الذي يراد أن يكون محل الصراع ليقضى فيه على كل روح تجديدية إسلامية حقيقية.
إن النخبة الحاكمة والمتحالفة معها إذا لم تنتبه إلى هذه الحقيقة ستبقى مكرسة لمنظومة تربوية تعليمية فاشلة كليا، بل الواقع أنها ستتموقع، أي النخبة الحاكمة من سياسيين ومفكرين ومثقفين، بهذا الإصرار تموقعا غير صحيح في حين أن الحركة الإسلامية تتقدم خطوات بمشروعها في تعبئة الأمة وتحقيق نهضتها الشاملة المنجمعة كليا على حقيقة الإسلام وحركته في التاريخ ماضيا وحاضرا ومستقبلا من خارج مجال التقليد موضوع النقد ومحل الصراع الوهمي.
ومعنى هذا أن على النخبة الحاكمة في السياسة والفكر اليوم أن تنتبه إلى أنها بتكريس المنظومة التربوية التعليمية في سياق صراعها مع المشروع الإسلامي من خلال توجيهها إلى صراع وهمي بين التقليد والحداثة تخوض معركة في غير محلها وبآليات غير مناسبة لها. وفي هذا مضيعة للوقت والجهد، كما هو نوع تزوير وتمويه على الأمة.
وما ينطبق على هذا الصراع الوهمي بين التقليد والحداثة ينطبق تماما على عملية التلفيق الكبرى من خلال مفهوم "الأصالة والمعاصرة" الذي يشكل المرجعية الفكرية للمشروع "الديموقراطي الحداثي"، إذ هذا المفهوم، "الأصالة والمعاصرة" الذي ركز عليه "الميثاق الوطني للتربية والتكوين" يؤسس لعملية تلفيق غير ممكنة ووهمية ولا تفضي إلى أية نتيجة عملية إيجابية، ولذلك فحركة المشروع الإسلامي المتجدد وسط الأمة لن تقاوم بهذا النوع من العمليات التلفيقية والصراعية الوهمية لأنها حركة كلية تصنع جزئياتها في الواقع امتدادا في المستقبل.
فنخلص من كل هذا إلى أن ما بني على باطل فهو باطل، كما تقرر القاعدة القانونية الفقهية؛ فإذا كانت المرتكزات الثابتة إنما هي تلفيق وهشاشة وغموض فما بني عليها غير ذي جدوى، وهو ما يفسر الفشل الدائم الذي أدى إلى انهيار كلي للمنظومة التربوية التعليمية اليوم. ومن ثمة فالتعويل على منظومة انهارت كليا إنما هو رهان على فراغ مهول، إذ انهدام الثوابت يعني انهدام ما بني عليها من عمل، وهو ما يعني ضرورة البحث عن مدخل حقيقي يفضي إلى بناء حقيقي لمنظومة تربوية لها علاقة بمصير الأمة وأجيالها ووظيفتها.
عوامل فشل المنظومة التربوية التعليمية الدائم
هنا في المغرب نقاش كبير وكثير حول ظاهرة استمرار فشل إصلاحات المنظومة التربوية التعليمية حتى أصبح من الواضح الإقرار بأنه فشل دائم لا يتعلق بالإصلاحات بقدر ما هو ماهية المنظومة نفسها. ولذلك أصبح السؤال التالي حقيقة قائمة: هل نحن أمام منظومة قابلة للإصلاح فعلا، أم نحن المغاربة أمام ضرورة البحث عن منظومة أخرى تخرجنا من الورطة العامة وتفتح أفقا جديدا وحركة جديدة أمام المغاربة والمجتمع المغربي بعد ضياع حوالي قرن في فلك إصلاحات فاشلة؟
دون السقوط في فخ النقاش السطحي والتسطيحي لقضية جوهرية في حياة الشعب المغربي ستحاول هذه الورقة أن تقرأ "منطق" الإصلاحات وحبلها الناظم لتكشف بكل وضوح عن عوامل الفشل الحقيقي لنقف جميعا على أننا أمام خيارين لا ثالث لهما:
أ- ترك الأمر على ما هو عليه؛ فنتعب أنفسنا ونضيع وقت شعبنا وأمتنا في دوران الحلقة المفرغة عسى نعثر على فتات إصلاحات لم تُجْد ولن تجدي، إذ يكفينا حجم الخسارة البشرية والمادية والتاريخية بسبب ما عاشه ويعيشه المغرب مع دوام الفشل.
ب- امتلاك الوعي الضروري والجرأة الكافية لنصدع بحق تستفيد من ثمرته الأمة والإنسانية حين نُجمع أمرنا ونوحد كلمتنا حول مدخل عملي لاكتشاف منظومة تفعل وجودنا وتبرهن عن جدوانا وتكشف عن طاقاتنا وتجمعها في أفق مستقبل عريض وعظيم وتوفر لنا إمكانية الاستفادة المتوازنة من غيرنا.
ومن هذا المنطلق لن نبحث اليوم في التماسك "التقني" علوميا وبداغوجيا داخل الإصلاحات حيث يمكن أن يجتمع عشرة من الخبراء ويبحثوا في كل جديد فيصوغوا إصلاحا متقونا "تقنيا"، لكنه على مستوى مرجعيته وامتداده الحقيقي في الواقع والمستقبل يبقى غير ذي جدوى، وهو ما صحب جل الإصلاحات في المغرب. ولذلك سنحاول أن نقف على أصول ومصادر الفشل الدائم المخترقة بكل هدوء وربما بـ"علمية" و"منهجية" المنظومة التربوية التعليمية.
ويمكن إجمالها في ثلاثة أصول يشكل تفاعلها الداخلي وتكاملها العملي واقع الأزمة المعيشة:
الأول: تكريس الاستبداد
يعتبر الباحثون أن المنظومة التربوية التعليمية حينما تمارس داخل المؤسسة التعليمية بكل أصنافها ودرجاتها تصبح هي "الأداة الإيديولوجية الكبرى للدولة"، وقد سبق معنا أن من التحولات الجذرية السلبية أن خرجت هذه المنظومة من حضن الأمة إلى قبضة الدولة، وهذه الأخيرة نفسها ليست أداة بيد الأمة اليوم بل تم احتكارها من طرف قبضة نظام سياسي معين، فأصبحنا أمام واقع احتكرت فيه السلطة والدولة والثروة من جهة واحدة قائمة على منطق الاستبداد المطلق وقواعده الفاعلة.
وهو ما يطرح سؤالا جوهريا حول جدوى منظومة تتحرك وتشتغل في هذا السياق، وهو، كذلك، ما يفسر فشلها الدائم حيث بهذا تتعارض والطبيعة الإنسانية المبنية عل معاني الحرية والإيجابية خاصة في مجال التربية والتعليم الذي تمتد آثاره إلى كل شرايين الحياة في أبعادها الفردية والجماعية الحاضرة والمستقبلية.
إن امتداد يد الاستبداد إلى روح المنظومة التربوية التعليمية وصياغتها بكل جرأة لتحافظ عليه وتكرسه كواقع دائم في النفوس والأفكار شكل عقدة العقد وعقبة العقبات أمام تحرك هذه المنظومة في اتجاه إنتاج عوامل القوة البشرية والمادية والعلومية.
فلما تحدث "الميثاق الوطني للتربية والتكوين" عن المرتكزات الثابتة ذكر من أهمها ما يلي:
- الاهتداء بمبادئ العقيدة الإسلامية السمحاء.
- حب الوطن والتمسك بالمملكة الدستورية (الميثاق الوطني للتربية والتكوين)[1].
فنحن أمام مرتكزات يراد لها الثبات، أنجزت خليطا على أساس كبير من الغموض بين ثلاثة مجالات: الاهتداء بمبادئ العقيدة الإسلامية السمحاء (مجرد الاهتداء في انتظار التخلص كما يدعو إلى ذلك التيار الاستئصالي في المستقبل القريب) + حب الوطن + التمسك بالمملكة الدستورية.
ولاشك أن امتزاج هذه المجالات الثلاثة في التجربة المغربية -عبر قرون من الزمن تميزت بتقلبات حادة تاريخيا لتلتقي في لحظة ضعف المجتمع والنظام السياسي مع فترة الاستعمار الخارج من معركة "التنوير مع الكنسية"- سيفضي إلى تغليب قبضة النظام السياسي أمام التباس في فهم العقيدة وتكريس عجزها الكبير عندما شوهها التاريخ ولبس عليها كثير من الحكام لتتراجع إلى أبعد الحدود مبادئها ويصبح حب الوطن مجسدا في إحكام قبضة النظام السياسي كليا على المنظومة وحركتها في الواقع وامتدادها في المستقبل، وذلك ليفرض على الوعي والتفكير المغربيين أن تصبح ماهية المواطنة هي ماهية النظام السياسي نفسه وحب الوطن ماهية حبه وخدمة الوطن خدمته وبناء الوطن بناؤه...
إننا أمام تجربة خطيرة حينما ننظر إليها من زاوية المستقبل وما أنتجته اليوم، ذلك أن إخضاع حركةَ منظومةِ مجال لا يمكن أن يكون فيه الإبداع والعطاء إلا في ظروف الحرية الحقيقية خسارة عظمى من ناحية وتكريس للاستبداد المتعارض جوهريا ووجوديا مع الحرية الحقيقية.
الثاني: تكريس التبعية
ويا ليت الأمر وقف عند ذلك الحد، بل حصل الاختراق الكامل من طرف مفاهيم مركزية ناتجة عن صيرورة غربية وتُكون ماهيتها وحضارتها ومعناها؛ إذ نجد من المرتكزات الثابتة في حركة الإصلاحات لمنظومتنا التربوية التعليمية ليس الانفتاح على المنظومة الغربية للاستفادة منها بناء على الحكمة اللازمة بما هي تجربة إنسانية، بل لتبنيها جملة باعتماد مفاهيم مركزية في الباب، من قبيل الديموقراطية والحداثة، دون التدقيق في خلفيتها وحمولتها المرجعية والتاريخية والقيمية التي لم ولن تصمد أمامها ترسانة من المفاهيم الغامضة والقاصرة ك"الاهتداء بالعقيدة الإسلامية السمحاء"، و"الأصالة والمعاصرة".
ولذلك لن تُخَرج منظومة محكومة بهذه الدلالات المتحالفة مع الاستبداد ضمن تفعيل فعالية العلوم المدروسة ومناهجها المعتمدة (أغلبها غربي إن لم نقل كلها) إلا متعلما مقيما في المغرب جغرافيا وعقله وقلبه وربما روحه في عاصمة من عواصم الغرب.
نعم لا يعني هذا عداء لكل ما هو غربي، فليس ذلك من الحكمة ولا من الإنسانية في شيء، بل المقصود أننا لم ننفتح على المنظومة الغربية وإنما وجدنا أنفسنا أمام ضعفنا وجهلنا بقضيتنا ومرجعيتنا بين قبضة حديدية مزدوجة وحادة: استبداد وتبعية في إطار تحالفهما السياسي الاستراتيجي الذي تكون فيه الغلبة لقوة الغرب العلومية والمادية. ولذلك لسنا اليوم على واقع حرية إذ لا يمكن لمنظومة هذه روحها وجوهرها وقَدَرها أن تخرج شيئا بالأحرى أن تذهب بنا إلى التقدم الحقيقي والقيام بدورنا التاريخي.
الثالث: وهم الصراع بين التقليد والحداثة
شكل مفهوم الحداثة أداة فكرية وحركية وتنظيمية وسياسية مبهرة فتصدى لها المفكرون والباحثون والسياسيون تحليلا وبيانا ونقدا وإن بشكل محتشم، لكن الواقع أن مفهوم الحداثة أحدث اختراقا هائلا في بنية التفكير لدى المثقف والمفكر والسياسي في المغرب لعوامل، ليس هنا مقام بيانها وإن كنا نتحدث عن أهمما (التعليم)، مما أدى إلى تبنيه الكلي.
ولاشك أن من القضايا الشائكة التي واجهت المفكر والتفكير والفكر في المغرب قضية الإصلاح في كل المجالات، خاصة السياسي والتربوي التعليمي مما أتاح "ديناميكية" كبيرة لهذا الاختراق. وقد كانت معاقل التقليد الراكدة في أفكار وهياكل وتنظيمات موضوع وهدف رماح النقد الحداثي في كل المجالات، ومع مرور الزمن تشكل وعي عام لدى النخبة المفكرة والسياسية والمثقفة أن مدخل الإصلاح يكمن في تحقيق الانتصار الساحق لمفهوم الحداثة على مفهوم التقليد كما تصورونه في الواقع وكما وجدته فيه.
لقد اختلفت النخبة في الباب، فمنها من دعا إلى القطيعة المنهجية الكلية مع الماضي والانتقال إلى تبني المفاهيم الكبرى الغربية في بناء الشخصية والمجتمع والدولة، ومنها من دعا إلى العمل على تبيئة المفاهيم بالبحث عن نظير لها في التراث ثم العمل على ملء هذا النظير بالمدلولات الغربية وستكون المنظومة التربوية التعليمية أهم مجال في الباب للتخلص من كل ما هو تقليد.
ودون كبير عناء في تدقيق ماهية هذا التقليد، ولاعتبارات "إيديولوجية" وفكرية وسياسية تم تعميمه ليشمل كل ما له علاقة بالإسلام وبحركته في الواقع خاصة لما برزت الحركة الإسلامية وأصبح لها حضورها الوازن والواضح في كل القطاعات والمجالات وظهر أن لها مشروعها السياسي وتصورها للحكم والدولة والمجتمع.
لقد حصلت آثار وخيمة لهذا التعميم على حركة المنظومة التربوية التعليمية، إذ عوض أن يتم الانتباه إلى ضرورة البحث الدقيق في علاقتها بالأصول المرجعية الحقيقية لاختيار الشعب المغربي الإسلام طوعا لا كرها، تم إدخال مجال مصيري، هو مجال التربية والتعليم، إلى حيز صراع ضيق ومحدود، بل حين يحصل التدقيق فيه جيدا سيتبين أنه صراع وهمي؛ ذلك أن الحركة الإسلامية من خلال مشروعها المجتمعي تتقدم برؤية هامة وجذرية في نقد ذلك التقليد باعتباره أهم عوامل الركود العام وأهم عقبات التجديد المتكامل لسلوك الفرد والمجتمع. ومن خلال رؤيتها هذه خرجت من مجال التقليد الذي يراد أن يكون محل الصراع ليقضى فيه على كل روح تجديدية إسلامية حقيقية.
إن النخبة الحاكمة والمتحالفة معها إذا لم تنتبه إلى هذه الحقيقة ستبقى مكرسة لمنظومة تربوية تعليمية فاشلة كليا، بل الواقع أنها ستتموقع، أي النخبة الحاكمة من سياسيين ومفكرين ومثقفين، بهذا الإصرار تموقعا غير صحيح في حين أن الحركة الإسلامية تتقدم خطوات بمشروعها في تعبئة الأمة وتحقيق نهضتها الشاملة المنجمعة كليا على حقيقة الإسلام وحركته في التاريخ ماضيا وحاضرا ومستقبلا من خارج مجال التقليد موضوع النقد ومحل الصراع الوهمي.
ومعنى هذا أن على النخبة الحاكمة في السياسة والفكر اليوم أن تنتبه إلى أنها بتكريس المنظومة التربوية التعليمية في سياق صراعها مع المشروع الإسلامي من خلال توجيهها إلى صراع وهمي بين التقليد والحداثة تخوض معركة في غير محلها وبآليات غير مناسبة لها. وفي هذا مضيعة للوقت والجهد، كما هو نوع تزوير وتمويه على الأمة.
وما ينطبق على هذا الصراع الوهمي بين التقليد والحداثة ينطبق تماما على عملية التلفيق الكبرى من خلال مفهوم "الأصالة والمعاصرة" الذي يشكل المرجعية الفكرية للمشروع "الديموقراطي الحداثي"، إذ هذا المفهوم، "الأصالة والمعاصرة" الذي ركز عليه "الميثاق الوطني للتربية والتكوين" يؤسس لعملية تلفيق غير ممكنة ووهمية ولا تفضي إلى أية نتيجة عملية إيجابية، ولذلك فحركة المشروع الإسلامي المتجدد وسط الأمة لن تقاوم بهذا النوع من العمليات التلفيقية والصراعية الوهمية لأنها حركة كلية تصنع جزئياتها في الواقع امتدادا في المستقبل.
فنخلص من كل هذا إلى أن ما بني على باطل فهو باطل، كما تقرر القاعدة القانونية الفقهية؛ فإذا كانت المرتكزات الثابتة إنما هي تلفيق وهشاشة وغموض فما بني عليها غير ذي جدوى، وهو ما يفسر الفشل الدائم الذي أدى إلى انهيار كلي للمنظومة التربوية التعليمية اليوم. ومن ثمة فالتعويل على منظومة انهارت كليا إنما هو رهان على فراغ مهول، إذ انهدام الثوابت يعني انهدام ما بني عليها من عمل، وهو ما يعني ضرورة البحث عن مدخل حقيقي يفضي إلى بناء حقيقي لمنظومة تربوية لها علاقة بمصير الأمة وأجيالها ووظيفتها.
4
مدخل إنقاذ المنظومة التربوية التعليمية
فالمراقب للنقاش الدائر حول فشل الإصلاحات المتعلقة بالمنظومة التربوية التعليمية بالمغرب، بل لواقع الانهيار الكلي لهذه المنظومة، يكتشف أن هذا النقاش لم يتطور إلى مستوى تدقيق المدخل الكفيل بتحقيق المرجو من أية منظومة تربوية تعليمية في أي بلد.
وإذا تبث بالتحليل أن هذا الفشل الدائم وهذا الانهيار الكلي ارتبط بالاختيارات المرجعية الكلية، أي بما يسمى المرتكزات الثابتة وما بني عليها من اختيارات إجرائية، فإن المدخل ينبغي أن يتجاوز المستوى "التقني" والإجرائي في أي إصلاح ليقف على كليات مدخلية كفيلة بتحقيق الإقلاع الضروري لمنظومتنا التربوية التعليمية.
إن منظومة تربوية تعليمية حينما تفككها إلى مرتكزات ووحدات وتنجز بهذه الحلقات المفككة عملية جمع: مرتكزات + ثوابت + تفاصيل المنظومة = عاش الاستبداد والتبعية، إنما هي منظومة تحتاج إلى عملية كبرى تفضي إلى تحقيق القطيعة التامة معها.
ولاشك أن موقع أية منظومة تربوية تعليمية ضمن حركة المجتمع على الصورة المغربية المبينة أعلاه يعقد هذه العملية الكبرى. لذلك يحتاج الأمر إلى عملية تفكير كبرى تحتضن وتؤطر هذه المهمة (تحقيق القطيعة نظرا لعدم جدوى الإصلاح في الظروف الحالية) بحيث تحقق تغطية جميع مفاصل وارتباطات المنظومة بما ينجز التوازن الضروري في عملية التغيير الكلية.
ولذلك ينبغي الاشتغال على واجهتين عمليتين:
الأولى: العمل من داخل المنظومة بما يحقق اختراق قيم التغيير المطلوب أو يدافع عنها وينجز ما يمكن إنجازه منها، إذ لا يمكن تعطيل حركة هذه المنظومة في أية لحظة إلا إذا كانت لحظة وجيزة ضرورية تحصل في إطار لحظة انتقال سريع، كما حصل عند تغيير بعض الأنظمة السياسية في ظرف سياسي مفاجئ يقتضي التوقف لوقت وجيز، أو في لحظات حرب أهلية مدمرة أو عند عدوان خارجي شامل كما حدث في غزة في الحرب الأخيرة. وهذا لا ينطبق على اللحظة المعيشة في المغرب، بل غير مناسب استحضاره عند التفكير في المدخل، وحتى إن استحضر فالزمن الذي يستغرقه قليل وخاضع لدرجة الاستعداد القبلي لدى قوى التغيير في القضية.
ولذلك على كل من له علاقة بالمنظومة التربوية التعليمية التحرك من موقعه أيا كان هذا الموقع وأيا كان هذا الشخص، فردا أو مؤسسة، وفي أي مناسبة ليقدم ما يمكن تقديمه لأجل إنقاذ فلذات الأكباد من تلاميذ وطلاب وتقديم أية خدمة مهما كانت جزئية لمستقبل الأمة وأجيالها، ذلك أن الواقع الذي عليه هؤلاء التلاميذ والطلبة اليوم سواء في مجال التعليم العمومي أو الخصوصي واقعا مؤلما ويؤشر على مستقبل من الانهيار الكلي للمجتمع وحركته.
وهنا ينبغي أن تتحرك المؤسسات النقابية من أساتذة ومعلمين وتلاميذ وطلبة وفق روح جماعية للضغط على الجهات المعنية للسماح لكل الأطراف لتشارك في تصحيح مضمون ومسار وسياق حركة منظومتنا التربوية التعليمية، فضلا عن كل الأعمال التي يقوم بها كل واحد من موقعه عند إنجاز أية مهمة من داخل حركة المنظومة.
إن على الجميع أن يساهم في تحقيق التصالح المطلوب بين الشعب المغربي وبين منظومة لها صلة جوهرية بفلذات أكباده وبأجياله، ولا يعني هذا التصالح مع الاستبداد والتبعية بل الواجب يقتضي العمل الحثيث لتقويض امتدادهما في النفس والفكر والمجتمع ومؤسساته.
الثانية: على القوى الحية والصادقة والتواقة إلى الإصلاح الحقيقي والتغيير الجذري أن تجعل قضية التربية والتعليم من أولويات حركتها وجهادها ونضالها لما لذلك من علاقة بمصير الأمة.
إن التحرك الشامل وفق استراتيجية سياسية شاملة تقوض عوامل الفشل الحقيقية وتخرج المنظومة التربوية التعليمية من واقع الانهيار الشامل لتفتح لها أفقا جديدا أصبحت ضرورة ملحة ومن باب المسؤولية التاريخية على كل القوى من خلال ميثاق حقيقي ينظر بعيدا ويؤسس على وعي ومسؤولية ووضوح وأمانة.
ولا يعني هذا العمل على تفعيل منظومة الاستبداد والتبعية، بل هو بيان على أن العمل السياسي في المغرب ما لم يباشر علاج القضايا الجوهرية وفق تصور جامع ليصنع كليات تصورية وحركية تفضح علاقة الاستبداد بكل ما أصبح عليه وتؤسس لقواعد عمل تضمن مستقبل الحرية والقوة والاستقلال، إنما هو وسيلة لضياع الوقت من جديد أو تكريس للواقع المعيش.
فقد وصل الأمر في المغرب إلى أن تؤشر حركة المنظومة التربوية التعليمية على أن المغرب على وضع اختناق حاد ومدمر، لذلك آن الأوان بإلحاح شديد للبحث الجامع عن ميثاق حقيقي للخروج بحركة المجتمع المغربي من النفق القائم إلى أفق ملائم، وذلك باستحضار قيمة وموقع المطالب الثلاثة أعلاه: مطلب الأمة العالمة بقضيتها، ومطلب الدولة العادلة العالمة بموقعها الطبيعي لا المهيمنة المتسلطة، ومطلب وضوح القضية الجامعة؛ حيث منظومة من دون قضية إنما هي حركة فارغة ولا تنتج إلا فراغا، ومن دون دولة عادلة وصادرة عن أمة واعية إنما نحن أمام أداة قمعية تسلطية، ولاشك أن أم معضلات التربية والتعليم في المغرب اختراق القيم السلطوية التسلطية لها التي مصدرها عمق التجربة الاستبدادية الحاكمة في المجتمع المغربي التي تسربت إلى كل شرايين وتفاصيل الحياة.
وهنا ينبغي أن ينصب النقاش حول ثلاث مسائل محورية:
المسألة الأولى: رد الاعتبار لقيم الشعب المغربي الإسلامية
لقد أصبح واضحا أن هناك حرصا من طرف المخططين والمهيمنين على المنظومة التربوية التعليمية على تهميش القيم الإسلامية، بل هناك من يعمل على إقصائها نهائيا في المستقبل القريب في الوقت الذي تقتضي المرحلة المعيشة والوعي بتفاصيلها ضرورة العمل لأجل هيمنتها على تفاصيل المنظومة التربوية التعليمية بروح بناءة يحصل من خلالها الانفتاح على باقي التجارب الإنسانية والنظر إليها بمعيار نقدي متكامل، ذلك أن قضية القيم في عالم اليوم أصبحت أمرا بالغ الخطورة وتشكل أم الأزمات في التجربة الغربية. ولا شك أنه بإمكاننا أن نقدم تجربة رائدة في تجاوز آثار هذه الأزمة على منظومتنا بتفعيل قيم الإسلام باعتماد التجربة النبوية للنظر من خلالها إلى تفاعل الأمة عبر التاريخ مع قضية التربية والتعليم مع العمل على التخلص من كل فهم تراثي عقيم يكرس واقع التقليد والجمود والركود والاستسلام، ليس على الطريقة السائدة بتعميم كلمات فارغة من قبيل "الاهتداء بمبادئ العقيدة الإسلامية" أو "الأصالة والمعاصرة" بل العمل الجاد وفق روح تجديدية كاملة تقطع مع التقليد والجمود والركود ومع الاستبداد والتبعية وتنفتح عل مستقبل الحرية الحقيقية.
وفي هذا الإطار ينبغي إخضاع مفاهيم مركزية في التجربة الغربية حيث تناقش هناك نقاشا هاما في حين نسلم بها نحن تسليما كاملا ونعتبرها دلالة مطلقة، كمفهوم الحداثة وما يدور في فلكه، إلى نقد جذري للكشف عن جوهر علاقتها مع كينونتنا واختيارنا التاريخي والمصيري، لأن هذا الإطلاق حجر على العقلية المغربية ومنعها من أن تطلق العنان لكفاءتها لاكتشاف ما يناسبها من اختيارات كلية أو فرعية في بناء تجربتها الخاصة مع الاستفادة المتوازنة من كل التجارب الإنسانية، لذلك لا ينبغي أن تكون منظومتنا التربوية التعليمية مجرد رجع صدى لما توصل إليه الغرب من نظريات في المجال، ولا وسيلة تجعلنا في قبضة قوة عالمية تستند إلى التجربة الغربية في إطار صراع كوني حقق في اللحظة المعيشة هيمنة عولمية لنمط معين من الفهم للقضايا الإنسانية التي من أهمها قضية التربية والتعليم.
فاعتماد النظريات التربوية والبيداغوجية كما صاغتها التجربة الغربية دون تمحيصها بعقلية ناقدة إنما هو تكريس لواقع التخلف والتبعية، ذلك أن النظريات في الغرب تخضع لتطور هائل ومتسارع في حين نسجن نحن عملية بناء أجيال من أمتنا في محاولات تجسيد بعض النظريات التي حصل تجاوزها بهدوء ضمن حركة المجتمع الغربي. وهنا تظهر أهمية الاشتغال على المسألة الثانية.
المسألة الثانية: الاستفادة من النظريات الغربية بمعيار نقدي متكامل وكلي
اعتمد الإصلاح الأخير للمنظومة التربوية التعليمية بيداغوجيا الكفايات حيث أشار إليها "ميثاق التربية والتكوين" وتبناها جملة "الكتاب الأبيض"، ومن المعلوم أن أصل هذه البيداغوجيا، وغيرها، هو ما تعرفه المقاولة في الغرب من تطور هائل على صعيد تدبيرها من أجل مردودية جديدة، خاصة ضمن حركة اللبرالية الأمريكية؛ فهي وإن أظهرت وزنا علميا إلا أنه مشحون بكثافة آثار سياقاته ومنظوماته وقيمه.
فلا يخفى على أحد أن جميع الإصلاحات التي مست المنظومة التربوية التعليمية في المغرب تقلبت بين النظريات الغربية التي تميزت بخاصية انتقال المفاهيم من مجال إلى مجال؛ من مجال العمل والمقاولة وتدبيرها، مثلا، إلى مجال التربية والتعليم، كما لا يخفى أن قضية انتقال المفاهيم من مجال إلى مجال تطرح إشكالات عدة يتصدى لها أهل الاختصاص لتمحيصها بما يحافظ على خصوصية المجال وفعاليته، لكن الأمر يصبح أكثر تعقيدا وأكثر تأثيرا لما يتعلق بانتقال المفهوم من سياق إلى سياق؛ من سياق غربي إلى سياق إسلامي، أي من مجال تداولي إلى مجال تداولي آخر بينهما تعارض جوهري من حيث أصول العمل ومقاصده وغايته، إذ هنا تصبح حركة المنظومة مهددة بالشلل والانهيار لما تخضع للاختراق بشكل كامل وتتلاشى مقومات المقاومة الذاتية بسبب عضالها المزمن من ركود وعجز وجمود وتقليد سلبي.
لكن لما يتم إحكام الكفاءة المرجعية وتتضح القضية الجامعة وتنكشف امتداداتها في التفاصيل الحياتية ويصبح لذلك رجاله وأطره ومؤسساته الساهرون عليه والناظرون لمستقبله تتوفر الإمكانية الكبرى للنقد البناء لكل النظريات الواردة من الغرب.
لقد انبهر الكثير بإعمال بداغوجيا الكفايات ونهضوا لبيانها وسال مداد كثير لذلك، وقليل من اعترض عليها جزئيا وقليل القليل اعترض عليها كليا.
نعم، بما أن هذه البداغوجيا تراهن على المتعلم باعتباره موضوعا للعملية التعليمية التعلمية كانت منسجمة مع المطالب الملحة اليوم من حرية وإرادة وإبداع وكفاءة وجدوى وفعالية وما إلى ذلك من المطالب، لكن هذا لا يقتضي عدم الانتباه إلى بعدها السياقي؛ والمتجلي في خصلتين وليدتي هيمنة المنطق اللبرالي المتوحش على التفكير الغربي في المراحل الأخيرة خاصة مع سيادة الهيمنة الأمريكية.
الأولى: النزعة الفردانية المبالغ فيها، ولاشك أن في هذا تعارض مع المنظومة الإسلامية التي تقترح توازنا حاسما وكبيرا بين النزعة الفردية والاعتبار الجماعي مما يساهم في بناء مجتمع متوازن وعادل في الفرص والحقوق والواجبات.
الثانية: الميول الاستكباري الاستعلائي الذي لا يكتفي بتغليب النزعة الفردانية، بل يوظفها ليتجاوزها إلى إرادة الاستعلاء والاستكبار التي تترجم في مجال الاقتصاد بالبحث عن الربح بأية وسيلة، وفي مجال السياسة بالطموح الجامح والسعي الحثيث للاستعمار والتوسع. وفي المجال الأخلاقي بغلبة النزعات الشهوانية والغريزية التي تطلب واقع الحرية المطلق لتصنع ما تشاء من تصرفات وتنشر ما تريد من قيم.
وبهذا كانت منظومتنا التربوية التعليمية الحالية من أكبر وسائل تكريس واقع التبعية والتيهان الفكري.
لذلك آن الأوان لنقف بكفاءة عالية على نقد كل وارد من الغرب وعدم التسليم بإطلاقيته الكونية، خاصة في مجال التربية والتعليم وبناء الشخصية والمؤسسة والمجتمع.
المسألة الثالثة: قضية الإعلام وعلاقته بالتربية والتعليم
فالانتباه إلى الدور الخطير للإعلام يدعو إلى ضرورة الضغط لإحداث تحول كاف ومنظم في علاقته مع قضية التربية والتعليم بحيث يحصل انسجام موفق بين وظيفة الإعلام في بعدها التربوي والتعليمي ووظيفة المنظومة من خلال وسائلها كاملة، وهو ما يعني، كذلك، العمل الكبير لتخليص الإعلام من قبضة الاستبداد واحتكاره الأعمى له وتنظيم المجال وفق روح ميثاقية جامعة تقطع مع الاستبداد والفساد والتبعية وتعيد الاعتبار لمرجعية الشعب المغربي، وذلك كفيل بخروج الجميع إلى مستوى من الوضوح في تصوره للقضية مما يساهم في تنظيم عملية التدافع السياسي والمجتمعي والفكري والاجتماعي في أفق الحرية الكاملة ووفق ضوابط متفق عليها.
إن الإعلام إما أن يكون أداة بناء أو أداة تخريب وتكريس لأصول الواقع المعيش المجمع على فساده وخرابه، لذلك كان من الأولويات التركيز على نقد جذري لوظيفة الإعلام في الظروف الحالية خاصة من قبضة المخزن وحلفائه عليه.
5- خلاصة
نخلص من كل هذا، وبعد بيان واقع الانهيار الشامل لمنظومتنا التربوية التعليمية وبعد الكشف عن أصول وعوامل هذا الانهيار، إلى أن قضية التربية والتعليم أصبحت، وباعتبار حجم خطورتها على الجميع من حيث بعدها المستقبلي والمصيري، أولوية كبرى من أولويات التدافع السياسي والفكري والمجتمعي بين قوى المحافظة على واقع يكرس الاستبداد والتبعية وبين قوى الإصلاح والتغيير الحقيقية.
لقد آن الأوان لنخرج حركة منظومتنا من واقع صراعي وهمي يراد منه التمويه والتزوير عن الأجيال، ومن وقاع قبضة التبعية والاستبداد في تحالفهما المصيري إلى واقع بنائي تكون فيه قضية التربية والتعليم محتضنة جملة من طرف شعبها ورجاله ومؤسساته الصادقين فلا مجال للمزايدة على فلذات الأكباد ومستقبل أجيال وأمة.
عن العمل السياسي يفقد كل قيمته إذا أصبح دائرا على هوامش وجزئيات ويترك الكليات والقضايا المصيرية لعبث العابثين ولعب المتلاعبين.
إن المدخل السياسي المرحلي الميثاقي لقضية التعليم في المغرب اختبار حقيقي لكل القوى السياسية: هل تكون صادقة وأمينة على مستقبل أمة وأجيالها أم ترهن الجميع في مزايدات شخصانية ومطالب سياسوية وقبضة استبدادية متحالفة مع الاستعمار.
مدخل إنقاذ المنظومة التربوية التعليمية
فالمراقب للنقاش الدائر حول فشل الإصلاحات المتعلقة بالمنظومة التربوية التعليمية بالمغرب، بل لواقع الانهيار الكلي لهذه المنظومة، يكتشف أن هذا النقاش لم يتطور إلى مستوى تدقيق المدخل الكفيل بتحقيق المرجو من أية منظومة تربوية تعليمية في أي بلد.
وإذا تبث بالتحليل أن هذا الفشل الدائم وهذا الانهيار الكلي ارتبط بالاختيارات المرجعية الكلية، أي بما يسمى المرتكزات الثابتة وما بني عليها من اختيارات إجرائية، فإن المدخل ينبغي أن يتجاوز المستوى "التقني" والإجرائي في أي إصلاح ليقف على كليات مدخلية كفيلة بتحقيق الإقلاع الضروري لمنظومتنا التربوية التعليمية.
إن منظومة تربوية تعليمية حينما تفككها إلى مرتكزات ووحدات وتنجز بهذه الحلقات المفككة عملية جمع: مرتكزات + ثوابت + تفاصيل المنظومة = عاش الاستبداد والتبعية، إنما هي منظومة تحتاج إلى عملية كبرى تفضي إلى تحقيق القطيعة التامة معها.
ولاشك أن موقع أية منظومة تربوية تعليمية ضمن حركة المجتمع على الصورة المغربية المبينة أعلاه يعقد هذه العملية الكبرى. لذلك يحتاج الأمر إلى عملية تفكير كبرى تحتضن وتؤطر هذه المهمة (تحقيق القطيعة نظرا لعدم جدوى الإصلاح في الظروف الحالية) بحيث تحقق تغطية جميع مفاصل وارتباطات المنظومة بما ينجز التوازن الضروري في عملية التغيير الكلية.
ولذلك ينبغي الاشتغال على واجهتين عمليتين:
الأولى: العمل من داخل المنظومة بما يحقق اختراق قيم التغيير المطلوب أو يدافع عنها وينجز ما يمكن إنجازه منها، إذ لا يمكن تعطيل حركة هذه المنظومة في أية لحظة إلا إذا كانت لحظة وجيزة ضرورية تحصل في إطار لحظة انتقال سريع، كما حصل عند تغيير بعض الأنظمة السياسية في ظرف سياسي مفاجئ يقتضي التوقف لوقت وجيز، أو في لحظات حرب أهلية مدمرة أو عند عدوان خارجي شامل كما حدث في غزة في الحرب الأخيرة. وهذا لا ينطبق على اللحظة المعيشة في المغرب، بل غير مناسب استحضاره عند التفكير في المدخل، وحتى إن استحضر فالزمن الذي يستغرقه قليل وخاضع لدرجة الاستعداد القبلي لدى قوى التغيير في القضية.
ولذلك على كل من له علاقة بالمنظومة التربوية التعليمية التحرك من موقعه أيا كان هذا الموقع وأيا كان هذا الشخص، فردا أو مؤسسة، وفي أي مناسبة ليقدم ما يمكن تقديمه لأجل إنقاذ فلذات الأكباد من تلاميذ وطلاب وتقديم أية خدمة مهما كانت جزئية لمستقبل الأمة وأجيالها، ذلك أن الواقع الذي عليه هؤلاء التلاميذ والطلبة اليوم سواء في مجال التعليم العمومي أو الخصوصي واقعا مؤلما ويؤشر على مستقبل من الانهيار الكلي للمجتمع وحركته.
وهنا ينبغي أن تتحرك المؤسسات النقابية من أساتذة ومعلمين وتلاميذ وطلبة وفق روح جماعية للضغط على الجهات المعنية للسماح لكل الأطراف لتشارك في تصحيح مضمون ومسار وسياق حركة منظومتنا التربوية التعليمية، فضلا عن كل الأعمال التي يقوم بها كل واحد من موقعه عند إنجاز أية مهمة من داخل حركة المنظومة.
إن على الجميع أن يساهم في تحقيق التصالح المطلوب بين الشعب المغربي وبين منظومة لها صلة جوهرية بفلذات أكباده وبأجياله، ولا يعني هذا التصالح مع الاستبداد والتبعية بل الواجب يقتضي العمل الحثيث لتقويض امتدادهما في النفس والفكر والمجتمع ومؤسساته.
الثانية: على القوى الحية والصادقة والتواقة إلى الإصلاح الحقيقي والتغيير الجذري أن تجعل قضية التربية والتعليم من أولويات حركتها وجهادها ونضالها لما لذلك من علاقة بمصير الأمة.
إن التحرك الشامل وفق استراتيجية سياسية شاملة تقوض عوامل الفشل الحقيقية وتخرج المنظومة التربوية التعليمية من واقع الانهيار الشامل لتفتح لها أفقا جديدا أصبحت ضرورة ملحة ومن باب المسؤولية التاريخية على كل القوى من خلال ميثاق حقيقي ينظر بعيدا ويؤسس على وعي ومسؤولية ووضوح وأمانة.
ولا يعني هذا العمل على تفعيل منظومة الاستبداد والتبعية، بل هو بيان على أن العمل السياسي في المغرب ما لم يباشر علاج القضايا الجوهرية وفق تصور جامع ليصنع كليات تصورية وحركية تفضح علاقة الاستبداد بكل ما أصبح عليه وتؤسس لقواعد عمل تضمن مستقبل الحرية والقوة والاستقلال، إنما هو وسيلة لضياع الوقت من جديد أو تكريس للواقع المعيش.
فقد وصل الأمر في المغرب إلى أن تؤشر حركة المنظومة التربوية التعليمية على أن المغرب على وضع اختناق حاد ومدمر، لذلك آن الأوان بإلحاح شديد للبحث الجامع عن ميثاق حقيقي للخروج بحركة المجتمع المغربي من النفق القائم إلى أفق ملائم، وذلك باستحضار قيمة وموقع المطالب الثلاثة أعلاه: مطلب الأمة العالمة بقضيتها، ومطلب الدولة العادلة العالمة بموقعها الطبيعي لا المهيمنة المتسلطة، ومطلب وضوح القضية الجامعة؛ حيث منظومة من دون قضية إنما هي حركة فارغة ولا تنتج إلا فراغا، ومن دون دولة عادلة وصادرة عن أمة واعية إنما نحن أمام أداة قمعية تسلطية، ولاشك أن أم معضلات التربية والتعليم في المغرب اختراق القيم السلطوية التسلطية لها التي مصدرها عمق التجربة الاستبدادية الحاكمة في المجتمع المغربي التي تسربت إلى كل شرايين وتفاصيل الحياة.
وهنا ينبغي أن ينصب النقاش حول ثلاث مسائل محورية:
المسألة الأولى: رد الاعتبار لقيم الشعب المغربي الإسلامية
لقد أصبح واضحا أن هناك حرصا من طرف المخططين والمهيمنين على المنظومة التربوية التعليمية على تهميش القيم الإسلامية، بل هناك من يعمل على إقصائها نهائيا في المستقبل القريب في الوقت الذي تقتضي المرحلة المعيشة والوعي بتفاصيلها ضرورة العمل لأجل هيمنتها على تفاصيل المنظومة التربوية التعليمية بروح بناءة يحصل من خلالها الانفتاح على باقي التجارب الإنسانية والنظر إليها بمعيار نقدي متكامل، ذلك أن قضية القيم في عالم اليوم أصبحت أمرا بالغ الخطورة وتشكل أم الأزمات في التجربة الغربية. ولا شك أنه بإمكاننا أن نقدم تجربة رائدة في تجاوز آثار هذه الأزمة على منظومتنا بتفعيل قيم الإسلام باعتماد التجربة النبوية للنظر من خلالها إلى تفاعل الأمة عبر التاريخ مع قضية التربية والتعليم مع العمل على التخلص من كل فهم تراثي عقيم يكرس واقع التقليد والجمود والركود والاستسلام، ليس على الطريقة السائدة بتعميم كلمات فارغة من قبيل "الاهتداء بمبادئ العقيدة الإسلامية" أو "الأصالة والمعاصرة" بل العمل الجاد وفق روح تجديدية كاملة تقطع مع التقليد والجمود والركود ومع الاستبداد والتبعية وتنفتح عل مستقبل الحرية الحقيقية.
وفي هذا الإطار ينبغي إخضاع مفاهيم مركزية في التجربة الغربية حيث تناقش هناك نقاشا هاما في حين نسلم بها نحن تسليما كاملا ونعتبرها دلالة مطلقة، كمفهوم الحداثة وما يدور في فلكه، إلى نقد جذري للكشف عن جوهر علاقتها مع كينونتنا واختيارنا التاريخي والمصيري، لأن هذا الإطلاق حجر على العقلية المغربية ومنعها من أن تطلق العنان لكفاءتها لاكتشاف ما يناسبها من اختيارات كلية أو فرعية في بناء تجربتها الخاصة مع الاستفادة المتوازنة من كل التجارب الإنسانية، لذلك لا ينبغي أن تكون منظومتنا التربوية التعليمية مجرد رجع صدى لما توصل إليه الغرب من نظريات في المجال، ولا وسيلة تجعلنا في قبضة قوة عالمية تستند إلى التجربة الغربية في إطار صراع كوني حقق في اللحظة المعيشة هيمنة عولمية لنمط معين من الفهم للقضايا الإنسانية التي من أهمها قضية التربية والتعليم.
فاعتماد النظريات التربوية والبيداغوجية كما صاغتها التجربة الغربية دون تمحيصها بعقلية ناقدة إنما هو تكريس لواقع التخلف والتبعية، ذلك أن النظريات في الغرب تخضع لتطور هائل ومتسارع في حين نسجن نحن عملية بناء أجيال من أمتنا في محاولات تجسيد بعض النظريات التي حصل تجاوزها بهدوء ضمن حركة المجتمع الغربي. وهنا تظهر أهمية الاشتغال على المسألة الثانية.
المسألة الثانية: الاستفادة من النظريات الغربية بمعيار نقدي متكامل وكلي
اعتمد الإصلاح الأخير للمنظومة التربوية التعليمية بيداغوجيا الكفايات حيث أشار إليها "ميثاق التربية والتكوين" وتبناها جملة "الكتاب الأبيض"، ومن المعلوم أن أصل هذه البيداغوجيا، وغيرها، هو ما تعرفه المقاولة في الغرب من تطور هائل على صعيد تدبيرها من أجل مردودية جديدة، خاصة ضمن حركة اللبرالية الأمريكية؛ فهي وإن أظهرت وزنا علميا إلا أنه مشحون بكثافة آثار سياقاته ومنظوماته وقيمه.
فلا يخفى على أحد أن جميع الإصلاحات التي مست المنظومة التربوية التعليمية في المغرب تقلبت بين النظريات الغربية التي تميزت بخاصية انتقال المفاهيم من مجال إلى مجال؛ من مجال العمل والمقاولة وتدبيرها، مثلا، إلى مجال التربية والتعليم، كما لا يخفى أن قضية انتقال المفاهيم من مجال إلى مجال تطرح إشكالات عدة يتصدى لها أهل الاختصاص لتمحيصها بما يحافظ على خصوصية المجال وفعاليته، لكن الأمر يصبح أكثر تعقيدا وأكثر تأثيرا لما يتعلق بانتقال المفهوم من سياق إلى سياق؛ من سياق غربي إلى سياق إسلامي، أي من مجال تداولي إلى مجال تداولي آخر بينهما تعارض جوهري من حيث أصول العمل ومقاصده وغايته، إذ هنا تصبح حركة المنظومة مهددة بالشلل والانهيار لما تخضع للاختراق بشكل كامل وتتلاشى مقومات المقاومة الذاتية بسبب عضالها المزمن من ركود وعجز وجمود وتقليد سلبي.
لكن لما يتم إحكام الكفاءة المرجعية وتتضح القضية الجامعة وتنكشف امتداداتها في التفاصيل الحياتية ويصبح لذلك رجاله وأطره ومؤسساته الساهرون عليه والناظرون لمستقبله تتوفر الإمكانية الكبرى للنقد البناء لكل النظريات الواردة من الغرب.
لقد انبهر الكثير بإعمال بداغوجيا الكفايات ونهضوا لبيانها وسال مداد كثير لذلك، وقليل من اعترض عليها جزئيا وقليل القليل اعترض عليها كليا.
نعم، بما أن هذه البداغوجيا تراهن على المتعلم باعتباره موضوعا للعملية التعليمية التعلمية كانت منسجمة مع المطالب الملحة اليوم من حرية وإرادة وإبداع وكفاءة وجدوى وفعالية وما إلى ذلك من المطالب، لكن هذا لا يقتضي عدم الانتباه إلى بعدها السياقي؛ والمتجلي في خصلتين وليدتي هيمنة المنطق اللبرالي المتوحش على التفكير الغربي في المراحل الأخيرة خاصة مع سيادة الهيمنة الأمريكية.
الأولى: النزعة الفردانية المبالغ فيها، ولاشك أن في هذا تعارض مع المنظومة الإسلامية التي تقترح توازنا حاسما وكبيرا بين النزعة الفردية والاعتبار الجماعي مما يساهم في بناء مجتمع متوازن وعادل في الفرص والحقوق والواجبات.
الثانية: الميول الاستكباري الاستعلائي الذي لا يكتفي بتغليب النزعة الفردانية، بل يوظفها ليتجاوزها إلى إرادة الاستعلاء والاستكبار التي تترجم في مجال الاقتصاد بالبحث عن الربح بأية وسيلة، وفي مجال السياسة بالطموح الجامح والسعي الحثيث للاستعمار والتوسع. وفي المجال الأخلاقي بغلبة النزعات الشهوانية والغريزية التي تطلب واقع الحرية المطلق لتصنع ما تشاء من تصرفات وتنشر ما تريد من قيم.
وبهذا كانت منظومتنا التربوية التعليمية الحالية من أكبر وسائل تكريس واقع التبعية والتيهان الفكري.
لذلك آن الأوان لنقف بكفاءة عالية على نقد كل وارد من الغرب وعدم التسليم بإطلاقيته الكونية، خاصة في مجال التربية والتعليم وبناء الشخصية والمؤسسة والمجتمع.
المسألة الثالثة: قضية الإعلام وعلاقته بالتربية والتعليم
فالانتباه إلى الدور الخطير للإعلام يدعو إلى ضرورة الضغط لإحداث تحول كاف ومنظم في علاقته مع قضية التربية والتعليم بحيث يحصل انسجام موفق بين وظيفة الإعلام في بعدها التربوي والتعليمي ووظيفة المنظومة من خلال وسائلها كاملة، وهو ما يعني، كذلك، العمل الكبير لتخليص الإعلام من قبضة الاستبداد واحتكاره الأعمى له وتنظيم المجال وفق روح ميثاقية جامعة تقطع مع الاستبداد والفساد والتبعية وتعيد الاعتبار لمرجعية الشعب المغربي، وذلك كفيل بخروج الجميع إلى مستوى من الوضوح في تصوره للقضية مما يساهم في تنظيم عملية التدافع السياسي والمجتمعي والفكري والاجتماعي في أفق الحرية الكاملة ووفق ضوابط متفق عليها.
إن الإعلام إما أن يكون أداة بناء أو أداة تخريب وتكريس لأصول الواقع المعيش المجمع على فساده وخرابه، لذلك كان من الأولويات التركيز على نقد جذري لوظيفة الإعلام في الظروف الحالية خاصة من قبضة المخزن وحلفائه عليه.
5- خلاصة
نخلص من كل هذا، وبعد بيان واقع الانهيار الشامل لمنظومتنا التربوية التعليمية وبعد الكشف عن أصول وعوامل هذا الانهيار، إلى أن قضية التربية والتعليم أصبحت، وباعتبار حجم خطورتها على الجميع من حيث بعدها المستقبلي والمصيري، أولوية كبرى من أولويات التدافع السياسي والفكري والمجتمعي بين قوى المحافظة على واقع يكرس الاستبداد والتبعية وبين قوى الإصلاح والتغيير الحقيقية.
لقد آن الأوان لنخرج حركة منظومتنا من واقع صراعي وهمي يراد منه التمويه والتزوير عن الأجيال، ومن وقاع قبضة التبعية والاستبداد في تحالفهما المصيري إلى واقع بنائي تكون فيه قضية التربية والتعليم محتضنة جملة من طرف شعبها ورجاله ومؤسساته الصادقين فلا مجال للمزايدة على فلذات الأكباد ومستقبل أجيال وأمة.
عن العمل السياسي يفقد كل قيمته إذا أصبح دائرا على هوامش وجزئيات ويترك الكليات والقضايا المصيرية لعبث العابثين ولعب المتلاعبين.
إن المدخل السياسي المرحلي الميثاقي لقضية التعليم في المغرب اختبار حقيقي لكل القوى السياسية: هل تكون صادقة وأمينة على مستقبل أمة وأجيالها أم ترهن الجميع في مزايدات شخصانية ومطالب سياسوية وقبضة استبدادية متحالفة مع الاستعمار.
للمزيد من المواضيع اضغط أسفله